شبهة أن الله يضع ذنوب المسلمين على اليهود والنصارى؟!
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ:
جاءني هذا السؤال: إذا كان الله في الإسلام عادلًا؛ فكيف يضع ذنوب المسلمين على اليهود والنصارى؟!
وذكر السائل حديثا يقول:
[يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى]. صحيح مسلم - حديث: 51 - (2767)
فلماذا يتحمل اليهود والنصارى ذنوب المسلمين؟! هل هذا من العدل؟
فأقول وبالله التوفيق:
أولا: ما ورد في آيات القرآن الكريم فهو الحق المبين، فالله سبحانه وتعالى حَكَمٌ عَدْلٌ، لا يَظْلِمُ أَحَدًا.
والله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: {ولا يظلم ربك أحدا}. سورة الكهف - آية: 49
ويقول تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}. سورة الزلزلة - آية: 8
وأيضا القرآن يقول: {كل نفس بما كسبت رهينة}.
ويقول القرآن: {كل امرئ بما كسب رهين}.
وكذلك يقول القرآن: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
وبناء على ذلك نقول إن الله لا يضع ذنوب المسلمين على اليهود والنصارى، بل الله سبحانه يحاسب كل إنسان بحسب عمله، كما يقتضيه العدل الإلهي الحكيم.
ثانيا: أما الحديث المذكور ففي سنده ضعف واضح.
فهذا الحديث ورد في صحيح مسلم من طريق راو اسمه: شداد بن سعيد، أبي طلحة الراسبي.
ورغم أنه رجل صادق وقد حكم بتوثيقه عدد من العلماء، إلا أن أهل العلم بالحديث قد تكلموا فيه من جهة حفظه للحديث، وقالوا إن حفظه للحديث لم يكن على الدرجة المطلوبة من الإتقان والضبط.
1 - فيقول الإمام البخاري:
[شداد الراسبي: ضعفه عبد الصمد (بن عبد الوارث)، ولكنه صدوق، في حفظه بعض الشيء]. التاريخ الكبير - (4/ 227)
2 - وذكره الحافظ أبو جعفر العقيلي في كتاب الضعفاء وقال:
[شداد، أبو طلحة الراسبي: وله غير حديث لا يتابع على شيء منها]. الضعفاء الكبير للعقيلي - (2/ 185)
3 - وقال الإمام أبو أحمد الحاكم: [ليس بالقوي عندهم]. تهذيب التهذيب (4/ 317)
4 - وقال الإمام البيهقي:
[شداد بن سعيد أبو طلحة الراسبي: ليس بالقوي]. السنن الكبرى - (2/ 442).
5 - ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني:
[شداد بن سعيد، أبو طلحة الراسبي البصري: صدوق يخطئ]. تقريب التهذيب - ص 705
فالخلاصة أن هذه الرواية فيها ضعف من جهة السند، ولا يجوز أن يحتج علينا بها.
ثالثا: بسبب ما قيل أعلاه؛ قام عدد من أهل العلم بتضعيف هذا الحديث:
1 - فيقول الإمام ابن حجر العسقلاني:
[قال البيهقي: ومع ذلك فضعفه البخاري وقال: الحديث في الشفاعة أصح]. فتح الباري - (11/ 398)
فالبخاري نفسه يضعف هذا الحديث.
2 - وقال الإمام البيهقي:
[فهذا حديث شك فيه راويه، وشداد أبو طلحة ممن تكلم أهل العلم بالحديث فيه، وإن كان مسلم بن الحجاج استشهد به في كتابه؛ فليس هو ممن يقبل منه ما يخالف فيه، كيف والذين خالفوه في لفظ الحديث عدد وهو واحد، وكل واحد ممن خالفه أحفظ منه؟! فلا معنى للاشتغال بتأويل ما رواه مع خلاف ظاهر ما رواه الأصول الصحيحة الممهدة في: "ألا تزر وازرة وزر أخرى". النجم: 38، والله أعلم]. شعب الإيمان (1/ 584)
3 - ويقول الإمام الذهبي تعليقا على هذا الحديث:
[فيه شداد بن سعيد الراسبي، وله مناكير]. مختصر تلخيص الذهبي - ج 6 ص 2863
4 - ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني:
[وفي حديث الباب وما بعده دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم ... يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى. فقد ضعفه البيهقي، وقال: تفرد به شداد أبو طلحة، والكافر لا يعاقب بذنب غيره لقوله تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"]. فتح الباري - (11/ 398)
5 - ويقول الشيخ الألباني:
[منكر بهذا اللفظ]. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة - ج 3 ص 481
رابعا: ربما يقول بعضهم، كيف يكون الحديث ضعيفا وهو مذكور عندكم في صحيح مسلم؟! أليس صحيح مسلم من أصح كتب السنة النبوية عند المسلمين؟!
فأقول: لو عرف قائل هذا الكلام طريقة الإمام مسلم في تأليف هذا الكتاب لما قال هذه الكلمة!
فالإمام مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح كتب في مقدمة الصحيح طريقته في تصنيف الكتاب.
فقال إنه سيجعل أقوى الأحاديث الصحيحة في مقدمة كل باب، ثم الأحاديث الأقل منها في الصحة، ثم الأقل وهكذا حتى يصل في آخر الباب إلى أقل الأحاديث درجة.
وهذا الحديث الضعيف مروي في صحيح مسلم في كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله.
وقد روى الإمام مسلم في هذا الباب سبعة أحاديث.
وجعل هذا الحديث آخر حديث في الباب/ ككا يدل على أن هذا الحديث هو أقل أحاديث الباب صحة عند الإمام مسلم.
وبناء على ما سبق أقول: إن الإمام مسلم لم يضع هذا الحديث في مقدمة الباب بسبب الضعف الواضح في سنده.
بل جعله في الشواهد كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني.
وهذا يعني أنه لا يرى أن هذا الحديث على شرط الصحيح كما هو الحال في بقية الأحاديث التي يضعها في مقدمة كل باب.
خامسا: على فرض صحة الرواية، فقد ذكر الها الإمام النووي تأويلا، فقال:
[فأولها النووي أيضا تبعا لغيره بأن الله يغفر تلك الذنوب للمسلمين فإذا سقطت عنهم وضعت على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم فيعاقبون بذنوبهم لا بذنوب المسلمين ويكون قوله ويضعها أي يضع مثلها لأنه لما أسقط عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم انفردوا بحمل الإثم الباقي وهو إثمهم ويحتمل أن يكون المراد آثاما كانت الكفار سببا فيها بأن سنوها فلما غفرت سيئات المؤمنين بقيت سيئات الذي سن تلك السنة السيئة باقية لكون الكافر لا يغفر له فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنه من عمله السيء ووضعه عن المؤمن الذي فعله بما من الله به عليه من العفو والشفاعة سواء كان ذلك قبل دخول النار أو بعد دخولها والخروج منها بالشفاعة وهذا الثاني أقوى والله أعلم].
فتح الباري لابن حجر (11/ 398)
سادسا: هذه المسألة دائمًا ما يثيرها المنصرون عبر الإنترنت، وتناسى هؤلاء المُنَصِّرون أن كتابهم هو المؤسس لفكرة تحمُّل الآخرين ذنوبًا لم يفعلوها !!
ففي إنجيل لوقا ينقل لنا الكاتب أن المسيح خاطب الناموسيين قائلا لهم:
[ ويل لكم لأنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم. إذا تشهدون وترضون بأعمال آبائكم لأنهم هم قتلوهم وأنتم تبنون قبورهم. لذلك أيضا قالت حكمة الله: إني أرسل إليهم أنبياء ورسلا فيقتلون منهم ويطردون. لكي يُطْلَبَ من هذا الجيل دَمُّ جميعِ الأنبياء المهرق منذ إنشاء العالم. من دم هابيل إلى دم زكريا الذي أهلك بين المذبح والبيت. نعم أقول لكم: إنه يطلب من هذا الجيل!]. لوقا 11 - 47 : 51
وهذا الكلام في منتهى الخطورة، فالمسيح يُصَرِّحُ لهم أن يهود هذا الجيل الذي عاصر المسيح سيتحمل دِمَاءَ جميعِ الأنبياءِ الذين قتلهم آباؤهم منذ أول نبي قتل وحتى نبي الله زكريا !!
فهل من العدل أن يَتَحَمَّلَ جيل واحد دماء جميع الأنبياء الذين سفكت دماؤهم ؟!
وتأكيدًا على هذا المعنى يقول الأب متى المسكين:
[هذا الأمر مرعب للغاية، والآن فقط ننتبه إلى عِظَمِ الشَّرِّ الذي اقترفه هذا الجيلُ من إسرائيل المعاصر للمسيح. فمن هذا النص يتضح لنا أن دَمَ المسيحِ الذي سفكوه سيُطلب ليس وحده بل مع دم جميع الأنبياء الذين قتلوهم منذ إنشاء العالم. وهنا نفهم أن دم النبي الذي تنبأ عن مجيء المسيح، أيّ نبي في القديم، يُحسب مضافاً على دم المسيح، لأنهم قتلوهم بسبب تنبؤهم عن المسيح. .. من أجل ذلك انضم إلى جريمة قتل المسيح جرائمُ جميعِ الذين قُتِلُوا من أجل المسيح ليُسْأَلَ عنها جِيلُ حنَّان وقيافا. لذلك لا نندهش كيف لا يزال اليهود يتألَّمون في العالم بلا مُعَزٍّ. إنه أمر خطير للغاية]. تفسير إنجيل لوقا - (ص: 505)
فأمر النصارى عجيب حقًا، يحتجون علينا برواية ضعيفة لكي ينكروا علينا أَمْرًا جاء صريحًا على لسان المسيح بحسب كتابهم !!
فماذا سيفعل النصارى الآن ؟! هل سيكفرون بدينهم ويرجعون للحق الذي جعله الله في الإسلام بعدما تبيّن لهم أنه موجود في كتابهم وليس في الإسلام ؟!